في غابة بولونيا (باريس)
الرابع عشر من نيسان عام 1934
انقضى على وجودي في "باريس"، عاصمةِ النور، عامٌ لم أرَ فيه يومًا أبهى من هذا اليوم ولا أزهى! فقد برزت فيه الشمس، بعد أن عزّتْ رؤيتُها في فصل الشتاءِ البارد الداكن السماء، بثوبٍ ذهبيّ اللون، فاتح لمّاع، طارحَةً الحجاب الشفَّاف الذي توارت خلفه وحجبها عن النواظر أشهرًا، مفيضةً على "باريس" وحوضها نورًا ساطعًا، لطيفًا، منعشًا للعين والقلب والجسد، كأنّها أدركت ما عاناه سكان العاصمة من ضيقٍ وكبتٍ، في فصلٍ مكفهرّ الجوّ غائمه، فدعتِ الناس للخروج من بيوتهم الشبيهة بمخابىء وسراديب، والإنطلاق إلى ظاهرها، والتمتّع بما توفّره لهم من دفءٍ ومتعةٍ، فلبّوا الدعوة، وكنت أحد الملبّين، ولم يعدل سرور الكثيرين من الباريسيين سروري، ببهاء النهار وجمال شمسه الّتي افتقدتُها، بعد طول غيابٍ عنها، واشتاقت نفسي لطلعتها؛ والمرء يشتدّ ميله إلى ما ألِفه واعتاده وقتًا طويلًا، ثم انحرم منه لمدةٍ غير وجيزة.
هذا السرور تضاعفَ في غابة بولونيا الواقعة في غربيّ "باريس"، الغابة الساحرة التي تحسب نفسك في رحابها أنّك ناءٍ عن المدينة والمدنيّة، بعيدٌ عن الضوضاء والضجيج وقرقعة العجلات وتزاحم الأقدام، وتتيقَّن أنّك طليقٌ، كطير مُحرّرٍ من قفصه، ناجٍ من ظلمة بعض الأسواق، تستنشق هواءً نقيًّا، فينشرحُ صدرُك، بعد ردحٍ من الزمن، قضيته في قلب العاصمة الكبيرة، تُفسَدُ رئتاك فيها بروائح الأمواج البشريّة وأنفاسهم، المسبّبة أحيانًا أوبئةً شديدة الإيذاءِ، كداء السلّ المتفشّي مثلًا في "باريس".
سبيل الوصول إلى هذا المنتزه كان "المترو"، وهو كنايةٌ عن سكةٍ حديديّة تجري تحت سطحِ المدينة، خرجت من دهاليزه القريبة الشَبَه من أنفاق المناجذ، مع الخارجين، المعدودين بالمئات وأحيانًا بالألوف. وسرنا معًا وقد سبقنا الآلاف وانتشرنا، وتوزَّعنا في هاتيك الغابة الواسعة، المتباينة الأطراف، الّتي يمكن أن تتّسع فسحتها لكلّ ساكني "باريس"، بدون أن تضيق بهم.
سِرت مع المتنزّهين، تارةً، وطورًا أفارقهم وأُخِفُّ الخطى وحدي، متوغِّلًا بين الأشجار الشامخة الذاهبة في السماء والمتنوّعة الألوان في أوراقها، ولم أتوقّف عن المسير إلّا بعد ساعةٍ، وقد أخذ مني التعب بعض المأخذ، فقعدت في كعب شجرةٍ، من فصيلة الشوحيّات، هي شجرة "يرز"، كما نسمّيها في "جبل لبنان"؛ وما هي إلّا هنيهةٍ حتّى رأيت أمامي وخلفي وعلى يميني ويساري وعلى مدّ النظر، زرافات الناس، التي تكاد لا تُعدّ.
مشهدٌ ساحرٌ تعجز ريشة كاتب عن وصفه بما يستحقّ، هو منظرٌ لم أشهد مثله من قبل في بلادنا المشرقيّة، إنّه متعةٌ للعين وراحةٌ للقلب وسلوى للروح، وهو معرضٌ للجمال الطبيعيّ بكلّ فتونه؛ الشجر متبرّجٌ بالورق المخضرّ والزهر، والنساء متبرّجات بحُللهنَّ وحِلاهنَّ وشعرهنَّ المسرَّح، وأصابعهن المطليّة الأظافر، والحمائم والشحاريرُ ترفرفُ فوق الرؤوس بلا وجل، كأنّها لا تعرف صيّادًا كما تعرف حمائمنا وطيورُنا، والشمس المطلّة خجولة من الأفق الجنوبيّ، تدغدغُ الوجوه بأشعّتها العسجديَّة؛ والنسيم الناعم يداعبُ شعر أزواج المحبّين المتكاتفين المتنعّمين بالهدوء والسكون ورحمة الشمس العطوف، وليس من رقيبٍ أو ناقدٍ يكدّرهم، ولو كان "عمر بن أبي ربيعة"، في عداد المتنزّهين في تيك المنظرة، لَغَبَطَهُم على النعمة، وارتاح قلبه وصفا ذهنه، وأوحت له هِبَة الجمال الخيّرةُ أكثر مما أوحت له آلهة الشعر في وصف جمال القرشيّات العربيّات، عند تغزّله بهنَّ.
المتنزّهون والمتنزّهاتُ اتخذوا الأديم فراشًا، ومن الشجر والسَّماء لحافًا، والشمس بأشعّتها الذهبيّة الفضيّة تنساب بين الأوراق، وأغصان شجر الشوح، واليرز الباسق العملاق الذي أسكره نسيم لطيف، كما أسكر الناس القائمين والقاعدين والجالسين.
تلك المنظرة المتّسعة الأرجاء، العديدة الجداول والبرك، رأيت أنّ لا انتظام في غرس شجرها ولا قاعدة، كما هي الحال في حديقة "اللكسمبورغ"، الكائنة في قلب العاصمة، والمألوفة لدى طلّاب "الحيّ اللاتينيّ" في المدارس العالية والكلّيات؛ فقد أطلقت فيها يدُ الطبيعة تفعلُ ما تشاء بإشراف الإنسان ومعونة يده، كما تُركت لطلّاب التنزّه والترويح عن النفس حريّتهم، يروحون فيها ويجيئون كما يشاؤون.
الحرّيّة فيها مقدَّسة في أوسع معانيها، تُمارس في نطاق الأخلاق المتعارف عليها عند الفرنسيين: ليس هناك من ينتقد أو ينظر شزرًا أو يهزأ من أمرٍ لا يُعجبه. الكلّ يتمتّع بما يرى وبمن يرى، هناك مشاهد قد يثور لها شرقيٌّ إذا رآها، لأنّ عينيه لم يألفا مثلها، ولكنّها عندهم عاديّة، ألفتها نواظرُهم واعتادتها طبائعهم: فتحتَ شجرةٍ وارفةِ الظلّ، تنتصبُ شامخةً في مريجةٍ معشّبة، فتاةٌ نائمةٌ على ظهرها وصبيّةٌ أخرى مستلقيةٌ على صدرها وبطنها، وفتى هناك يفترش الثرى متشمّسًا، وآخر يتّخذ جذع شجرة مسندًا له، وبيده كتابٌ يطالعه، ورجل تهمَّه الأمور السياسيّة أو الاجتماعيّة أو سواها يتسلّى بقراءة جريدة، وكثيرًا ما ترى الفرنسيّون يطالعون الجرائد، وهم ذاهبون إلى أعمالهم أو آيبون منها، في القطار أو الترام أو المترو أو السيارة، وهنالك امرأة وزوجها يتوسّدان العشب جنبًا إلى جنب، وقد استولى عليهما النعاس من جرّاء النسيم العليل والشمس المشرقة، فناما كأنّهما في منزلهما، ولا رقيب عليهما ولا عين تنظرهما نظرة الناقد أو الثالب؛ وفي مكان آخر، قلَّ عدد المتنزّهين فيه، شابٌ بجانب شابةٍ يقبّل خدّيها، ويربّتُ على كتفيها ويغازلها، غير آبهٍ بغائرٍ أو مكترثٍ بعين تَحْدِجُ.
وإذا انتقلت إلى رحبةٍ مجاورة، رأيت عائلة، ذكورًا وإناثًا، صغارًا وكبارًا، جالسين على العشب، يتبادلون الآحاديث المسلّية، وقريبًا من هناك ملاعبُ للرياضة، يتبارى فيها الشباب والشابات، أمارات النشاط باديةٌ على خدودهم المتورّدة، وليس من يتعجّب من اختلاط الجنسين، والعادة هذه أنستْهما كلّ ما يبعث على التعجّب، وبات الكلّ يعرف حقّه ويقف عنده ويُدرك واجبه ولا يتعدّى طوره .
عند الأصيل، وقد أوشكت عروس النهار البهيّة على وداع الغابة، استرحت بجانب بحيرة صغيرة، وسطّرت هذه الكلمات وأنا فرح الفؤاد مرتاح النفس، ولكن مثقل الرأس ممّا شاهدت عيناي، واستوعب فكري، وأنا معترف بتقصيري في وصف الحقيقة كاملة.
وعند الغروب هرولت مع المهرولين إلى بوابة "مايّو"، حيث نقلنا قطار المترو إلى "الغوبلان" في ساحة "إيطاليا" حيث المبيت.
يوسف س. نويهض